تفضلي
نص الاستماع مشكلة تَدَفُّقِ المعرفةِ
نحن نعيش بالفعل في عصرٍ انفجرتْ فيه المعلوماتُ كثَوَرَان بركانٍ يكتسح كلَّ شيءٍ ، ولم تعد مشكلتُنا هذه الأيام قِلةَ المعلوماتِ ، بل مشكلتُنا في تدفُّقِها بكَمِّياتٍ أكبرَ وأعظمَ من أن نستطيعَ استيعابَها أو حتى نسمعَ بها ، فحتى مئةِ عامٍ مضتْ، كان الناسُ أُمِّيِّين مقتنعين بمعارفهم المحدودةِ والبسيطةِ ، أما اليومَ فكثرةُ المعلوماتِ وتعدُّدُ الآراءِ جعلت الإنسانَ مُشَوَّشًًا لانشغاله في نواحٍ عديدة . انظرْ كم رأيًا للأطباء حول أمراضٍ كثيرةٍ كالصُّداعِ والرَّمدِ وكم نظريةً للعلماءِ ، وكم تفسيرًا للسياسيين، وكم نصيحةً للخبراءِ يلقونها اليومَ ويُلغونها غدًا !!
في عصرِ ماقبلَ الطباعةِ كانت المادةُ المكتوبةُ عزيزةً و شاقَّةً؛ مما تسبَّبَ في ضياع كثير من الإبداع البشريِّ ؛ ولكنْ ما أن طَبَعََ ( يوهان غوتنبرج ) أولَ كتابٍ (في القرن الخامسَ عشرَ الميلادي) حتى بدأَ الكتابُ ينزل من عليائه ، وتصبحُ المعرفةُ بسعرِ الورقِ الذي تُطبع عليه. في كلِّ عامٍ يُطبعُ من الكتب مايفوقُ سكانَ الأرضِ ، ومن الورقِ مايغطي زُرقةَ المحيطاتِ وخُضرةَ اليابسةَ . ولو افترضنا أنَّ أحدَنا عاش مئةَ عامٍ ، وقرأ في كلِّ يومٍ كتابًا ، فلن يُـنهي أكثرَ من ستةٍ وثلاثين ألفَ كتابٍ !
ثم جاءت الشبكةُ العنكبوتيةُ " الإنترنت " واكتسحتْ – ما عداها بجاذبيتِها وتنوُّعِها واعتمادِها الصوتَ والصورةَ . أبرزُ ما يميِّزُ الإنترنت تفاعلُها الثنائيُّ ، فالمعلوماتُ التي تأخذُها من الكتاب أو التلفاز أُحاديةُ الاتجاهِ ، لا تستطيع المشاركةَ فيها أو الاستزادةَ منها ، أو حتى تكييفَها حسبَ ظروفِك ، أما الإنترنت فهي عكسُ ذلك ، تأخذ منك وتعطيك ؛ تُحيلك إلى فروعٍ ومراجعَ بإمكانياتٍ لاتنتهي ، وهي فوقَ ذلك تتكيفُ مع ظروفِك والتكرارِ الذي تريد . الإنترنت - بدون شك - نافذةٌ غيرُ محدودةٍ للمعلومات ، لايمكن مقارنتُها بأيِّ مكتبةٍ ورقيَّةٍ ؛ فإن كان شخصٌ مثلي يفخرُ بأن لديه ألفي كتاب ، فإن موقعًا واحدًا على الإنترنت (مكتبةَ الكونجرس مثلاً) يوفِّرُ خمسةً وعشرين مليون كتاب ، البحث فيها كلِّها أسهلُ من البحث في مكتبتي.
وغزارةُ المعلومات لاتعني ازديادَ المعرفةِ بالضرورة ؛ فالمعلومةُ شيءٌ محفوظٌ ـ قد تردِّدُه كالببغاء ـ أما المعرفةُ فهي إدراكٌ وتطبيقٌ لتلك المعلومة . دعني أضربُ لك مثلاً بسيطًا ؛ كان الكثيرُ من الصحابةِ إذا حفظ آيةً بادر إلى تطبيقها في حياتِهِِِ اليوميةِ مبادرةً سريعةً قبلَ أن يتجاوزَها إلى غيرِها ؛ أما اليومَ فنرى أطفالاً ربما حفظوا القرآنَ كُلَّه ، لكنَّهم لا يُدركون قيمتَهُ فضلاً عن تطبيقِ محتواه ، والشيخان البخاريُّ ومسلمُ جاهدا للبحث عن الأحاديثِ الصحيحةِ وتصنيفِها جهادًا طويلاً . فقد يرحلُ أحدُهما لشهرٍ أو شهرين ـ ونحن نعرفُ مشقَّةَ الرحيل في تلك الأيامِ ـ من أجلِ حديثٍ واحدٍ ؛ أما في هذا العصرِ فيملك شخصٌ مثلي قرصًا مُدمَجًا بخمسةَ عشرَ ريالاً يحوي جميعَ كتبِ الأحاديثِ والتصانيفِ ، ويستطيع استخراجَ مايريد بــضغطةِ زرٍ واحدةٍ ، ومع هذا يعلوه الغبارُ من قلة الاستعمال !! إنه عصرُ سيطرةِ المعلومةِ ، فأصبحت بذلك هي المشكلةُ.
* فـهـد عـامـر الأحـمـدي
و هذا رابط للأخ البهلال لجميع النصوص للوحدات الثلاث صوتيا جزاه الله عنا كل خير
تفضلي
https://loghati.net/t25311.html
